خام – متابعات | الأربعاء 11 حزيران 2025
في مواجهة مستمرة مع محاولات الاحتلال طمس الذاكرة وسرقة التاريخ، تأتي رواية “الإمام” للكاتبة الفلسطينية باسمة التكروري، كعمل سردي جديد يُسهم في توثيق المعاناة الفلسطينية، ويعيد تشكيل صورة الوطن المسلوب من خلال الفن والحكاية.
الكاتبة الفلسطينية المقيمة في كندا، استلهمت في عملها الأخير الصادر عن دار طباق قصة جدّها الشيخ محمد خليل التكروري التميمي، إمام المسجد الأقصى، لكنها نسجت من تلك الجذور نصاً أدبياً تتداخل فيه الوقائع بالتخييل، وتسير شخصياته في أزقة نابلس والقدس ويافا وكأنها تسير فوق خرائط الوجع الفلسطيني.
الرواية تبدأ بمشهد موت الإمام، في مستشفى “شعاري تسيديك” بالقدس الغربية، لتؤسس منذ الصفحات الأولى لسردية الفقد، والموت الذي لم يعد غريباً في حياة الفلسطيني. ومن هنا، تنطلق الكاتبة برحلة “فلاش باك” تعود فيها إلى عام 1920، لتسرد قصة “علي النابلسي” و”سلوى الديجاني”، وهما شخصيتان متخيلتان، لكنهما تحملان في طباعهما وتفاصيلهما رمزية الجمع الفلسطيني المنكوب.
بين ذاكرة البيت والخرائط المسلوبة
يُغطي الزمن السردي للرواية فترة تمتد من بدايات الانتداب البريطاني على فلسطين وحتى ما بعد نكبة 1948، ويكشف السرد كيف أصبح القتل والتهجير جزءاً من اليوميات الفلسطينية. من خلال تقنية الحذف والاختزال، ترصد التكروري التحولات المفصلية في حياة الشخصيات، وما حل بالمدن من تغيير وخراب طال البشر والحجر.
تعكس الرواية في ثناياها صراعاً متشعباً: بين الإخوة، وبين الاحتلال والمقاومة، وبين الحداثة والتقليد، وبين التدين والتشدد. كما تُبرز الكاتبة تماثلاً واضحاً بين ما يحدث داخل العائلة الفلسطينية من انقسامات وسرقة للإرث، وما يحدث في فلسطين من اغتصاب للأرض والتاريخ.
وما بين الحوار المتوتر والأحلام والرؤى والتأملات، تنجح التكروري في تصوير الانقسام الداخلي للشخصيات، خصوصاً عند مفاصل الصدمة والخذلان. فـ”علي” الحائر بين أخوته، و”سلوى” التي تمزقها العاطفة والغضب، و”الحاج يوسف” الذي خذلته الشيخوخة، كلهم يقفون كرموز لحالة فلسطينية عامة، لا تزال تصارع آثار النكبة حتى اليوم.
مواجهة الاستعمار بالسرد والتوثيق
“الإمام” ليست رواية فقط، بل وثيقة سردية تسرد تاريخاً لا تريد له الكاتبة أن يُنسى. من خلال استدعاء مجازر دير ياسين وجرائم “الهاجاناه”، ومن خلال وصف الأزقة والأسواق ورائحة المدن القديمة، تحاول التكروري إعادة رسم فلسطين الذاكرة، لا فلسطين الخرائط المفروضة.
تستعرض الرواية ملامح فلسطين المغيبة، فتذكر أماكن ومعالم مثل قلعة يافا، شارع السلطان سليمان، حارة النصارى، المكتبة الخالدية، وسينما الحمرا، وتبني من خلالها خريطة وجدانية تقاوم التهويد والنسيان.
وتُوظف الكاتبة لغة شاعرية مفعمة بالتفاصيل الحسية، وتمنح للمكان روحاً تكاد تنطق، “رائحة المدينة، التراب المبلل بعرق أزمنة، بخور الكنائس، والخبز الطازج الخارج للتو من الأفران الحجرية”.
الحب كفعل مقاومة
وسط رماد الأحداث والعنف، تمنح الكاتبة للحب مساحة ولو ضيقة، فهو الاحتجاج الأكثر بساطة وصدقاً في وجه الكارثة. ويبدو انتصار الحب، بعد سلسلة من الانكسارات، وكأنه الجواب الإنساني على سؤال الكارثة: “كيف ينجو الإنسان وسط الدمار؟”
رواية “الإمام” ليست فقط صرخة ضد الاحتلال، بل هي أيضاً تأمل عميق في الهوية والدين والانتماء والخذلان، وفي قدرة الفلسطيني على البقاء والنجاة عبر الحكاية. انتهى ع1