خام – متابعات
قضية ليست بالغريبة على مجتمع عانى وعلى مدار سنوات من عمليات قتل وتعذيب واختطاف وتنكيل، إلا أنها – أي القضية – سرعان ما تسببت بإثارة الرأي العام، وفتحت شهية الناقمين والمكبوتين والمهمشين والمضطهدين، وحتى دعاة حقوق الإنسان.
إنها قضية المهندس المغدور بشير خالد الذي نُقلت جثته التي تتمسك برمقها الأخير من الحياة من أحد مراكز الاحتجاز التابع لوزارة الداخلية في جانب الكرخ ليودع مستشفى اليرموك، وليدخل في غيبوبة أياماً ويفقد بعدها حياته، إذ بدأت قصته بمشاجرة مع الضابط في الداخلية العراقية (اللواء عباس التميمي) وأحد أبنائه، وعلى أثر هذه المشاجرة اعتقل بشير خالد في مركز شرطة حطين ليتعرض إلى الضرب من قبل ضباط الشرطة في المركز، ثم نقل إلى المستشفى، ورفض الطبيب المعالج السماح له بالخروج بسبب وجود ضربة خلف الرأس قد تؤدي إلى مضاعفات بحسب تقرير المستشفى.
ولم يهتم الضباط المسؤولون بنقله وفق تقرير الطبيب، فقد أُخرج من المستشفى وأودع في سجن الجعيفر ليُعتدى عليه مجدداً ويُضرب بآلة غير حادة في منطقة الرأس، بحسب تقرير الطب الشرعي، ليدخل خالد في حال غيبوبة قبل أن يعلن عن وفاته.
قضية رأي عام
حاولت وزارة الداخلية عبر بياناتها ومؤتمراتها الصحافية أن تنأى بنفسها عن حال الاعتداء المفضي إلى الموت الذي تعرض له بشير خالد لطيف، إذ نشرت عبر موقعها الرسمي فيديو تعرض خالد إلى اعتداء من قبل الموقوفين في مركز الاعتقال، موضحين أن الوفاة كانت بسبب تعرضه للضرب من قبل الموقوفين، ولكن فيديوهات أخرى توضح وجوده في زنزانة بمفرده بعد الاعتداء عليه من قبل الموقوفين وهو بحال جيدة، مما يشير إلى تعرضه إلى اعتداء آخر بآلات غير حادة مع وجود أكثر من 25 ضربة في جسده، الأمر الذي أدى إلى توجيه أصابع الاتهام إلى ضباط في وزارة الداخلية.
تحولت قضية بشير خالد لطيف إلى رأي عام، فقد أغلقت نقابة المهندسين العراقية في مركزها العام ببغداد وفروعها في كل المحافظات، أبوابها مدة ثلاثة أيام استنكاراً لما وصفته بـ”بالجريمة البشعة التي راح ضحيتها المهندس المغدور بشير خالد الذي فارق الحياة إثر تعرضه للتعذيب”، ودعت النقابة “إلى كشف الحقيقة ومحاسبة المتورطين في هذه الجريمة”.
وعلى ما يبدو أن تبريرات وزارة الداخلية لم تقنع الحكومة، فقد وجه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بتشكيل لجنة تحقيقية عليا في شأن وفاة بشير خالد لطيف وإعلان نتائجها أمام الرأي العام، كذلك سارع مجلس النواب إلى تشكيل لجنة من ستة نواب تتولى التحقيق في القضية، ووجه النائب الأول لرئيس مجلس النواب محسن المندلاوي لجنة الأمر النيابي رقم 63 باستضافة كل القادة والضباط المعنيين في قضية الوفاة، وتقديم تقرير مفصل إلى رئاسة البرلمان لاتخاذ القرارات المناسبة.
منظمات دولية
أولت منظمات دولية الاهتمام بالقضية، إذ أصدرت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) بياناً أوضحت فيه تأكيدها أهمية “أن يكون التحقيق نزيهاً وشفافاً ومستقلاً يفضي إلى محاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لمنع وقوعها مستقبلاً”.
إلى ذلك طالب مركز جنيف الدولي للعدالة بفتح تحقيق دولي شامل في كل حالات التعذيب المُرتكبة في العراق، ولا سيما تلك التي أسفرت عن وفاة الضحايا خلال الأعوام القليلة الماضية، وأكد المركز في بيان له “أن استمرار غياب المساءلة سيؤدي إلى تكرار هذه الانتهاكات، كما حدث في حال المهندس الذي فارق الحياة صباح السابع من أبريل (نيسان) 2025، بعد أربعة أيام من الغيبوبة الناتجة من تعرضه لتعذيب مُبرح على يد ضابط كبير في الشرطة العراقية، إضافة إلى عناصر شرطة آخرين”.
اعترافات تحت التعذيب
يوضح المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة ناجي حرج أن “القضاء العراقي غالباً ما يصدر أحكاماً اعتماداً على اعترافات تُنتزع تحت التعذيب، والمشكلة أن تلك الأحكام قد تصل عقوبتها إلى الإعدام أو السجن المؤبد، ولعل هذا جانب خطر جداً، بخاصة إذا ما علمنا أن تلك الأحكام تصدر مع علم المحاكم أن الاعترافات قد انتزعت تحت التعذيب، إذ تُتجاهل التقارير الطبية أو الشكاوى المقدمة”.
التعذيب ليس ممارسات فردية
عام 2021 وثق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان احتجاز وتعذيب قوات الأمن الرسمية الشاب حسن الطائي في مقر جهاز الاستخبارات بمحافظة كركوك، مما أسفر عن إصابته بتشوهات جسدية بالغة، وأُجبرت عائلته بعد ذلك على توقيع “صلح عشائري” أفلت بموجبه الجناة من العقاب.
الطائي اعتقل بتهمة كيدية من قبل أحد عناصر الأجهزة الأمنية، واستمر اعتقاله 37 يوماً تعرض خلالها لأشكال قاسية من التعذيب، شملت الصعق بالكهرباء والخنق وتكبيل الأيدي بالأصفاد والتعليق في الساحة الخارجية للمركز تحت أشعة الشمس الحارقة، وأصيب الطائي على أثر هذا التعذيب بحروق من الدرجة الثالثة في اليدين وفروة الرأس، وتسبب التعذيب في مضاعفات أدت إلى بتر كفه اليسرى وتشوهات شديدة في كفه اليمنى.
القانون العراقي
يوضح الأكاديمي والباحث القانوني الدكتور أسامة شهاب حمد الجعفري أن المنظومة التشريعية العراقية زاخرة بالنصوص القانونية التي واجهت فعل التعذيب في السجون ومراكز الاحتجاز، فلم تكتف بحظر التعذيب ومناهضته كما في المادة (37/ ج) من الدستور التي نصت على تحريم كل أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية وإنما عدت فعل التعذيب جريمة يعاقب عليها، يسرد لنا الجعفري المواد القانونية التي خصصت لمعاقبة من يمارس فعل التعذيب، ويقول “قررت المادة (333) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل معاقبة الموظف أو المكلف بخدمة عامة بالسجن أو الحبس الذي عذب أو أمر بتعذيب متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو للإدلاء بأقوال أو معلومات في شأنها أو لكتمان أمر من الأمور أو لإعطاء رأي معين في شأنها”، كذلك قضت المادة (117) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم 23 لسنة 1971 المعدل ببطلان الإجراءات التحقيقية التي استعملت فيها وسائل غير مشروعة للحصول على إقرار المتهم.
مراكز لارتكاب جرائم التعذيب
يرى الجعفري أن المشكلة ليست في النصوص القانونية وإنما في إنفاذها داخل أروقة السجون ومراكز الاحتجاز، و”الخطيئة الكبرى للدولة عندما تكون مؤسساتها الأمنية مراكز لارتكاب جرائم التعذيب بدلاً من أن تكون مراكز لحماية الحقوق والحريات”.
السجون العراقية انتهاكات من دون محاسبة
وثق مرصد “أفاد” وهو مرصد إعلامي حقوقي يسلط الضوء على الانتهاكات ضد حقوق الإنسان في العراق، حالات التعذيب والابتزاز التي تمارس على النزلاء داخل السجون العراقية، ففي سجن التاجي تُباع قاعات المنام بمبلغ مالي نحو 100 ألف دينار عراقي (ما يقارب 76 دولاراً) بحسب القاعة التي تكون أقل اكتظاظاً أو تلك التي تكون قريبة من الجناح الإداري الذي يسمح بتوفر المكالمات الهاتفية لقاء مبالغ مالية، كذلك تفرض إدارات السجون وارداً مالياً يومياً أو شهرياً بحسب زيارة أهالي النزلاء، ويعاقب من يمتنع عن الدفع بالنقل إلى زنزانات سيئة، كذلك تشهد السجون العراقية عمليات تعذيب تصل إلى حد الوفاة، منها تعليق النزيل من قدميه ساعات طويلة مما يؤدي إلى ارتفاع الضغط وحدوث حالات الوفاة.
المرصد أوضح أن عمليات الابتزاز المالي لا تتوقف على الزيارات بل تمتد حتى على الذين انتهت مدة محكوميتهم، إذ لا يُصادق على قرار إطلاق سراح لمن انتهت مدة محكوميته إلا بعد دفع مبلغ مالي يصل إلى 10 آلاف دولار، كذلك فإن هناك من تسلم جثث ذويهم بأعضاء ناقصة، وهو ما يشير إلى تورط إدارات السجون في عمليات تجارة الأعضاء البشرية.
حالات مشابهة!
حادثة المهندس المغدور فتحت شهية وسائل الإعلام والمراقبين لرصد جميع الحالات المشابهة، حتى جاءت قضية الشاب زياد طارق البازي، أحد أبناء مدينة سامراء بمحافظة صلاح الدين، الذي اعتُقل أيضاً – بحسب ذويه – من قبل عناصر الأمن في إحدى السيطرات، ليتم العثور على جثته بعد 3 أيام وهي تحمل علامات تعذيب وحرق بمادة “التيزاب”، ما جعل الرأي العام في حالة غضب من هذا الانفلات الأمني، والاستهانة بحياة وكرامة المواطن.
إجراءات خجولة!
وفي مسعى لتدارك الأمر، وجهت رئاسة الوزراء العراقية جميع الوزارات والجهات الأمنية بضرورة توثيق عمليات التحقيق مع الموقوفين من خلال التصوير الفيديو، محملة تلك الجهات وجود أي خلل أو عطل في الكاميرات، لكن السؤال الأهم، ما الذي يمنع الجهات التحقيقية أن تُجري تحقيقين، أحدهما أمام الكاميرات، والآخر في دهاليز والموت والتعذيب بعيداً عن العدسة؟ انتهى ع1
منقول بتصرف من موقع اندبندنت عربية